كلمات أساسية
فاطمي، تقليد فكري، مفهوم الخلق، العقل، العلم.
Download PDF version of article 202 KB
لدى التفكير بالتقليد الفكري الفاطمي، فإن عدداً من المقالات في هذا الكتاب قد أخذت مقاربة "الصورة الكبيرة" وأعطت نظرة شاملة للقضايا التاريخية والثقافية الأكبر. أود أن أبتعد عن هذا الأسلوب وأسلط الضوء على رجل فكر متألق هو ناصر خسرو الذي عاش بشكل أساسي في خراسان في القرن الحادي عشر. ولأبقى مع موضوع الكتاب سوف أركز على بعض آراءه. وربما من هذه الآراء يمكن للمرء أن يبدأ ليرى ما الشيء الذي جعله شخصية بارزة.
في مدينة نيويورك توجد الآن مجموعة من الباحثين منهمكون بكتابة موسوعة ستملأ الفجوات في التاريخ والثقافة الإيرانية التي لم تتطرق إليها الموسوعات الأخرى مثل " موسوعة الإسلام " بشكل كاف. هذه الموسوعة الجديدة " الموسوعة الإيرانية "، تحتوي على العديد من المقالات التي يتوقعها المرء: مدن إيرانية، وشخصيات تاريخية إيرانية وهلمَّ جرا. ولكنها تحتوي أيضاً على مقالات في موضوعات كثيرة غير عادية. فمثلاً تحت الحرف "E" يوجد مقالة عن Eagle (العقاب). هذا الأمر قد يكون عادياً لو كان هناك بعض الأنواع النادرة من العقاب في العالم الإيراني. وفي الحقيقة فإن المقالة تذكر الطيور الموجودة بالفعل في إيران. ولكن المقال هو أيضاً عن ناصر خسرو، بسبب قصيدة مشهورة كتبها عن العقاب وتبدأ بهذه الأبيات:
رُوزي زِ سَرِ سَنك عُقابي بِه هوا خاست
بَهرِ طَلبِ طُعمه بارو بال بيارست.
(طار عقاب يوماً من علو مرتفع
فارداً جناحيه طلباً لفريسةٍ).
تروي القصيدة كيف أن عقاباً، يوماً ما، قد ارتفع عن موقعه الصخري، ونشر جناحيه وريشه بترف وانطلق طائراً يبحث عن الطعام. وبينما كان يحلِّق عالياً جداً فإنه تعجب من مواهبه العالية، ولأن بصره كان حاداً جداً كان بمقدوره أن يرى الشعرة الصغيرة في قاع البحر أو البرغشة تتحرك على عود. لقد تباهى قائلاً "أي مخلوق أفضل مني في أي مكان في البر أو السماء ؟ ولكن فجأة، وفي وسط هذه الغبطة ينتابه ألم مريع ويسقط مندفعاً بعنف إلى الأرض. لقد أصابه ألم عظيم, وهو يتهاوى كان يتلفت حوله ليرى سبب كارثته ويتبين أن سهماً قد خرقه في الصميم. فصعق بما أصابه ولم يستطع إدراك كيف أن شيئاً مصنوع من الخشب والمعدن وهما عنصران أرضيان ثقيلان كان بمقدوره أن يوقع أرضاً مخلوقاً يحلق في السماء، مخلوقاً قواه أعظم بكثير من مقدرات البشر. ووقعت عيناه على الريش المعلق بنهاية السهم، إنها من ريش العقاب, ففهم مصدر قوة السهم. وكانت مدلولات ذلك تغوص عميقاً في نفسه, فيقول متعجباً:
بَر تير بكاه كرد و يَر خوش برآن ديد
كفته زِكه تالَم؟ كه بَر ماست.
(نظر إلى سهم ورأى ريشه عليه
وقال لمن أشكو؟ فهذا الريش منا وعلينا)
ويدرك أن ريشه الذي كان سبب مصرعه هو نفسه الذي حمله إلى السماء وهو الذي هوى به. إن الكلمات المتناهية "أز ماست كه بر ماست" مازالت حتى الآن ترمز إلى أننا نحن أيضاً يوجد ضمن نفوسنا نفس الشيء الذي يرفعنا ويهبطنا. وفكرة الشاعر أن تكون حذراً من قوة ذلك الشيء. وينهي ناصر خسرو القصيدة بنصيحة مباشرة:
خسرو! اطرح أنانيتك وغرورك جانباً.
وانظر إلى ما حلَ بهذا العقاب المملوء بالغرور.
فأنانيته، وغروره المفرط،
جعلاه يهوي أرضاً.
ولكن بالإضافة إلى حالة حياته المثيرة والتي كانت فعلاً درامية، أعتقد أن ما يجعل ناصر خسرو أكثر شخصية مثيرة للإعجاب – حيث يتذكر الناس قصائده حتى الآن _ هو أنه بينما رؤيته تبقى ثابتة ترتكز على مواصفات كمالية بعيدة المدى نوعاً ما, فيدعونا جميعاً أن نطمح إلى الوصول إليها, ومع ذلك فإن قدميه تبقيان راسختان في أرض هذا العالم. ليس ناصر خسرو صوفياً يتوق للفناء في ذات الله, المحبوب. وليس زاهداً كلياً ينكر ملذات هذا العالم. بالعكس، إنه يحثنا أن نكون إيجابيين في هذا العالم وأن نستخدمه بفعالية لتحقيق كمالنا. إنه يحض قراءه أن يكونوا أفضل البشر. قدر ما يستطيعون.
وبالإضافة إلى سجله للحقائق التي لاحظها في بيئته المادية يظهر ناصر لمحات قليلة عن نفسه وكانت هناك النكته التي اشترك فيها مع أخيه الذي سافر معه وكانت عن صاحب الدكان من خرزويل الذي لم يكن لديه شيء مما أرادا شراؤه. ولذلك حيثما وجدا في رحلتهم شخصاً ليس لديه شيء مما سألا عنه، كان الأخوان ينظران إلى بعضهما ويقولا: " هذا تماماً يشبه البقال من خرزويل" ثم هناك التعليق الآخر الذي قاله ناصر بعد أن أمضى يوماً مع معلم في سمنان. لقد جمع المعلم طلابه قريباً من أحد الأعمدة في ساحة الدار. فعند أحد الأعمدة كانت مجموعة تدرس العلوم الطبية وأخرى تدرس الرياضيات وكان المعلم يقول على مسمع من الزائر أنه سمع هذا أو ذاك من ابن سينا. ولكن في حوار مباشر مع ناصر خسرو فإن هذا المعلم والذي كان محاطاً بمئات الطلاب قد اعترف قائلاً "لا أعرف شيئاً عن الرياضيات" ومضى ناصر خسرو متعجباً كيف يمكن لذلك الشخص أن يعلم شيئاً لا يعرف شيئاً عنه.
تبين لنا هذه التصريحات الصغيرة جزءاً بسيطاً من شخصيته, لكنها تفسر جزءاً صغيراً من ترحاله, مع أن رحلاته مليئة بالتفاصيل الوصفية. قد ننتقد ناصر خسرو أنه مقتضب جداً ولكن بالوقت نفسه يمكن أن نستريح متأكدين أنه عندما لا يخبرنا شيئاً فإن ذلك يرتكز على حقيقة تجربته الخاصة. فعندما يخبره الناس المحليون خارج القدس عن وادي جهنم القريب ويشرحون أن الوادي سمي بهذا الاسم لأنه عندما تتكئ عند حافة الوادي يمكنك أن تسمع صراخ الناس القابعين في جهنم، فإن ناصر يختبر ذلك بنفسه. فيقول أنه ذهب إلى هناك ولكن لم يسمع شيئاً. إن الصورة التي تظهر من مؤلف هذه الرحلات تبين أنه رجل ذو ملاحظة شديدة, إنه يتحمل مسؤولية التدوين وتقديم الحقائق بأمانة للآخرين كما أنه يريد مساعدة الآخرين أن يتعلموا من خبرته كما في قصة الحمّامات في البصرة.
في مرحلة العودة إلى الوطن من الرحلة، ولأنه أمضى شهوراً يقطع صحارى شبه الجزيرة العربية فإن ناصر وأخيه يصلان إلى البصرة في حالة شديدة من الفقر والبؤس. فعادا مديونين بثلاثين دينار أجور جملهم وليس لديهما شيئاً يبيعانه. كان منظرهما مريعاً حتى أن صاحب الحمام طردهما من الحمام العام. ويكتب ناصر: "لقد آويت إلى ركن أتفكر بتغيرات الدنيا" ووصل سريعاً إلى حلٍ. لقد كتب ناصر رسالة جميلة إلى حاكم المدينة قدم فيه نفسه وأظهر، بالمحتوى والأسلوب، أنه رجل ذو علم كبير وخبرة ببلاط الحكام. ونجحت خطته. فاستلما في الحال بذلتين جميلتين واستقبلا في البلاط حيث قضيا بعض الوقت. ومع ذلك، قبل أن يغادرا البصرة عاد الإثنان إلى الحمام بكامل لباسهما يصطحبهما الخدم. فاستقبلا مع الاعتذار الشديد. ولكن القصة لا تنتهي عند ذلك الحد بالنسبة لناصر. لكن الفوز بالسماح له بالدخول واظهاره لصاحب الحمام أن الأشياء ليست دائماً كما تبدو من الخارج، يمكن أن تعطي ناصر متعة شخصية. لكنه يجد درساً جدياً هنا. ويكتب أنه أدخل هذه الحادثة في وصفه لرحلته كيلا ييأس قراءه في أيام الشدة، بل يجب أن يعلموا أن رحمة الله قد تظهر أحياناً. ويردف قائلاً: "أن الله هو ارحم الراحمين حقاً". وبهذا، فإننا نرى بوضوح أكثر أن ناصر خسرو يكتب كتابه سفرنامه كهدية للآخرين. ويستخدمه لينوه أن ما يوجد هنا في هذا العالم مهم وما يُأمل في المستقبل يهمه بشكل مطلق. ويمكن أن نرى نفس الموقف في نوعين من كتاباته: الشعرية والفلسفية.
ولأنه درس جيداً المذاهب الفكرية في أيامه فقد كرس علمه للدفاع عن المذهب الإسماعيلي وإعلائه. فمن كتبه الفلسفية، نستطيع أن نتبين أنه كان ملماً بشكل واسع بالمسائل الدينية من الماورائيات إلى الأخلاق. وفي هذه الكتب كان يوجه مجموعةً واسعةً من الأسئلة: كيف تكوَّن العالم؟ ما المقصود من الفضاء والزمان والمادة؟ ما علاقة المادة بالروح؟ ما النفس وما العقل؟ ما هي القضايا الأخلاقية الأساسية التي يجب على المؤمن أن يهتم بها؟ وبعد اعتناقه للمذهب الإسماعيلي، استخدم ناصر كل علمه وفضوله الفكري من أجل خدمة القضية الإسماعيلية وخصوصاً ليوجه الآخرين إلى حقائق المذهب وليدافع عنه ضد أعدائه.
إن هرمية الخلق الآن تبدأ بالصعود. ففي أسفل مستوى، تتحد العناصر الأربعة لتشكل أولاً، المعادن (والتي تحتل مكاناً ولكنها لا تتحرك من نفسها أو تتوالد) ثم النبات (الذي لا يتحرك ولكنه يتوالد) ثم الحيوان (الذي يتحرك و يتوالد أيضاً). ومن الحيوان فإن أعلى درجة هم البشر (الذين لا يستطيعون أن يتحركوا فحسب بل يتوالدون ويفكرون) وهكذا، فقد تأسس طريق واضح من البشر إلى الله. وحالما نوضح علاقة النفس البشرية الكلية وكذلك إلى العقل البشري والعقل الكلي فسيكون لدينا الشبكة الضرورية التي تمكن الدين من نشر أخلاقياته.
لاحظ أنه بالنسبة لناصر خسرو، فإن النفس الكلية هي التي تنشد الكمال. والعقل الكلي لديه الكمال. وبالتأكيد فليست هذه هي الفكرة العرفانية التي تقول بأن النفس تهبط إلى الأرض ومسجونة فيها لتعلقها بها. وبالنسبة لناصر خسرو، فإن رغبة الروح إلى الكمال تؤدي إلى الخلق وهذا حينئذٍ يهيئ الأعمال الأساسية لإعطاء العالم المادي التقدير والاستحسان. عند ذلك يمكن أن نرى جذور بعض العبر في كتابات ناصر خسرو من أجل بلوغ العالم العلوي، فعلى المرء أن يكون في هذا العالم، وهذا العالم هو جزء حيوي من الخطة بكاملها.
بالرغم من المواصفات الكثيرة لرأي خسرو فإن ما هو مثير للإهتمام بشكل متأصل حول كل هذا في العرف الإسلامي هو وجود رواية أخرى للشرح المتعلق بنشأة الكون عن كيفية خلق العالم، وكيف تدرجنا من الروح المطلقة إلى العالم المادي. هذه الرواية الأخرى تشمل العقول العشرة التي كان قد شرحها بشكلٍ وافٍ أبو نصر الفارابي (ت950). و بدلاً عن خطة الله، العقل، النفس، الهيولى، توجد هنا خطة الله والعقل الأول وهكذا حتى العقل العاشر المعرَّف بالعقل النبوي أو الملاك جبريل. إذن هذا يؤسس العلاقة أو السلم للنفوس البشرية كي ترتقي هرم العقول العشرة نحو الله. إن النظام الكوني عند الفارابي قد تبناه بعض الإسماعيليين مثل حميد الدين الكرماني (ت حوالي 1021). إذن يمكن أن نرى هذين التقليدين عن نشأة الكون عملياً في الفكر الإسماعيلي في الفترة الفاطمية: نموذج الله – العقل – النفس – الهيولى, ونموذج العقول العشرة. إذاً فلماذا نظام الفارابي عن العقول العشرة النازلة يدخل على أرضية النظام الأسبق بحيث يتبناه بعض المفكرين الإسماعيليين ويتخلون عن التفسير الأسبق؟
أعتقد أن سبب ذلك هو دعم ادعاء الفلاسفة أن لا داعي للناس أن يتخلوا عن عقولهم كي يحافظوا على إيمانهم. لقد فضل الفلاسفة هذا النظام حيث يرتبط عقل الناس بهرم العقول ومن خلال ذلك الارتباط يتوصل إلى الله. كان اهتمامهم يرتكز على كيفية عمل العلاقة الوجودية بين البشر والله المختلف كلياً. ولكن ما الذي أهمله مؤيدو فكرة العقول العشرة، وما الذي لم يهمله ناصر خسرو؟ إنها القوة الإبداعية للنفس. فكما يوضح فإن النفس تبدع العالم المادي وهي مسؤولة عن إدارته. وبالنسبة لناصر خسرو، فإن النفس الكلية ليست فقط هي ما تبدع وتحي، مع أنها هي بالتأكيد ذلك، هي كل ذلك حالاً كما هي نفس الشيء الذي سينجو، أي النفس الإنسانية. ولم نسمع أبداً بخلاص العقل. إننا نرى أن النفس لها قوة الإبداع لخلاص نفسها. إن النفس, حسب رأي ناصر خسرو، مدركة لحالتها الحاضرة ومستقبلها الأفضل. إنها فعالة ومبدعة وتحاول دائماً سحب نفسها إلى الكمال.
بالإضافة لأعماله عن رحلاته في سفر نامه و أعماله لفلسفية فلدينا أيضاً مجموعة ناصر خسرو الشعرية الكاملة، وكما رأينا مع قصيدة الشاعر عن العقاب المتكبر، فإنه يوظف هذا النوع ليعلِّم ويعطي النصائح الأخلاقية. كما أنه يستخدم الشعر في خدمة علم الكلام الفلسفي لديه، مخفياً عقيدة عميقة في شعره. لكن الشعر أيضاً يمكِّن من رؤية شخصية الشاعر بشكل تام أكثر. وهنا، أود أن أبحث ولو للحظة في إحدى هذه العواطف التي تظهر في شعره، عاطفة العقل أو الفكر. إن جزءاً كبير من شعر ناصر – والذي يعود إلى زمن نفيه - يتصارع مباشرة مع حزنه ومرارته من فقدان الكثير مما هو غال لديه، وكثيراً ما يشعر بالمرارة على أولئك الحمقى الجهلة الذين يرفضون المعرفة والحكمة اللتين يقدمانهما. وهنا يصف ألمه أنه أشد من أي ألم عرفه:
لقد لسع العقرب المنفى قلبي حتى
يمكن أن تقول أن السماء قد خلقت المعاناة لي فقط.
ويعلن بمرارة في قصيدة أخرى قائلاً:
رغم أني خالي من المعاصي فقد صرت عدواً
للتركي والعربي والعراقي والخراساني
يبحثون دائماً عن هفوة عندي فلا يجدون، ومع ذلك
فهم يقولون أني "هرطقي" وعدو الصحابة!
ومع ذلك، في لحظة ما من كل قصيدة، يتغير ناصر خسرو من الغضب أو الحزن إلى إعادة تأكيد عمله الحياتي. إنه يذكِّر نفسه بتعهده إلى الإمام الخليفة الفاطمي وحقيقة العقيدة الإسماعيلية. إنه يُعزّي نفسه أن حكم هذا العالم المتغير يعني أنه ليس فقط الخير يتحول إلى شر لكن الشر أيضاً لا بد أن يتغير يوماً ما إلى خير ما دام لا بد من التغيير.
مع موضوع بارز في شعر ناصر خسرو وهو موضوع العقل، فإن ناصر يبين بوضوح كم يحتقر الجهل. إنه يجد معظم الناس أغبياء جداً إلى درجةٍ لا يمكنه تحملها، وهو يقارن هؤلاء الناس بكل أنواع الحيوانات، كالحمير طبعاً وحتى أيضاً الأسماك الصامتة والطيور الصغيرة المليئة بنبض الحياة. إنه يأخذ بجد حديث النبي محمد: "اطلب العلم ولو في الصين". فعلى المستوى الظاهري، يمكن لرحلاته التي وصفها في كتابه سفرنامه أن تكون بالتأكيد طريقة للبحث عن الحكمة وعندما يتكلم في شعره عن صين أخرى يدعوها "ما شين" نتبين أنه يقصد الشرق الباطني وكأنه يدعو إلى رحلة باطنية، ونتبين أنه يأخذنا إلى مستوى أعمق. وبالنسبة لناصر خسرو فإن هذه الصين الباطنية يمكن أن توجد في أهل بيت النبي، البوابة إلى حقائق الدين الخفية.
إن الشخص الذي نراه في ديوان شعر ناصر هو رجل يصارع عواطف متضاربة، فهو من ناحية رجل يحذر الآخرين من العالم المادي الذي يصطاد الرجل الروحي ويخونه، ومن ناحية أخرى يؤكد بنفس الوقت أن العالم المادي أساسي في جهاد الإنسان في إتباع الطريق الروحي. وبينما يكون من السهل أن نسمع الصوت التطهيري في هذه الرسالة يشير إلى الأخطار المغرية في العالم المادي فإننا نحتاج إلى مزيدٍ من التفكير لنفهم القيمة الإيجابية للعالم المادي الذي يحمله ناصر للشخص الروحي. فبالنسبة للشخص الروحي، الشخص الذي يرى أن عالم الآخرة أكثر أهمية من هذا العالم، يكون التحدي الأكبر هو في أن ينشغل بنشاط وبشكل مثمرٍ في هذا العالم المادي على أن يرفضه. إن العالم المادي هام للحياة الدينية لأنه يحمل الأدوات لتعلم الحكمة الحقيقية، أي العقل والعلم. ويشرح ناصر في كتابه "وجه دين" أن الحيوانات تعمل بدون علم بينما الملائكة تعلم ولكنها لا تعمل. أما البشر فعليهم أن يجمعوا بين العلم والعمل, تماماً كما يمثلون الاتحاد بين الأجساد الحيوانية والعلم الملائكي. بينما كان العقل بين الصوفيين حداً يجب تجاوزه وعائقاً في طريق تحقيق الاتحاد في ينبوع الحب، لأن العقل عند ناصر خسرو ليس شيئاً يجب تجاوزه أو إخماده بل يجب استعماله لزيادة العلم وتقوية الإيمان وفي قصيدة شعرية أخرى له, ترجمها بإسلوبٍ فيكتوري ج. برازن (1862 ـ 1926م) قول ناصر:
كان العقل دائماً قائدي، يقودني بيدي
حتى جعلني مشهوراً بالحكمة في عرض البلاد وطولها.
كان العقل هو من توجني بتاج الإيمان، كما أنني أقول أن الإيمان
زودني بالفضيلة والقوة كي أتحمل وأطيع.
دعونا نتطلع إلى تعليماته حول الشريعة. لقد ميزنا بين الظاهر والباطن وأوضحنا عدة مرات أن الفهم الباطني للشريعة أهم من المظهر الخارجي لها. ولن تكون بحاجةٍ إلى مجهودٍ كبيرٍ لتستنتج أن المرء يمكن أن يستغني أو يلغي تناقضاتها كلياً. وبالفعل، فقد كان أعداء الإسماعيليين غالباً ما يتهمونهم بعدم الالتزام بطقوس الشريعة. ومن جانبه فقد هاجم ناصر خسرو بشجاعة منتقديه ضمن طائفته أو خارجها بالتأكيد على أن المؤمن يجب عليه إتباع الشريعة ولا يمكن أن يعفى من متطلباتها ببساطة لأنه قد حصل على العلم الباطني. ففي كتابه خوان الإخوان يتسأل خسرو بكلام منمق: "فإذا كان تطبيق الشريعة ضرورياً جداً بالنسبة للتعبير المناسب عن الإيمان، فما هي مبررات رفع تناقضاتها عند ظهور قائم القيامة؟ ويجيب على سؤاله بالتأكيد على أن الشريعة قسم منها عقلي وقسم وضعي.
ويناقش أن الشريعة عقلية بمحرماتها ضد جريمة القتل والزنى والسرقة بحيث إذا ألغيت هذه المحرمات فسينهار النظام الإجتماعي في العالم. إن هذه الأحكام حيوية بالنسبة لأداء الأمة وظيفتها. ويمضي قائلاً: "أما بالنسبة للقسم الوضعي من الشريعة وتشمل بنود الوضوء والصلاة والزكاة والحج وما شابه ذلك وهي مفروضة. قد لا تبدو خطيرة كالسرقة والقتل، لكن هذه الأحكام موجودة بسبب ما هو ضمنها. ويقدم ناصر عدداً من المناقشات لدعم هذا الموقف. أولاً: "إنه يشبه ظاهر الشريعة بالعالم المادي حولنا، تماماً كما أن العالم المادي مركب من تنوع كامل من الأشياء المختلفة وهكذا تكون الممارسات الدينية وكل فرض له عدة مستويات مثلاً تشمل الصلاة مختلف المتطلبات مثل الكلام والإصغاء والوقوف والركوع. والصوم لا يقتصر فقط على الامتناع عن الطعام بل عن الشراب والممنوعات الأخرى. وبالمثل فالحج إلى مكة يشمل مجموعة متنوعةً من النشاطات. وبهذه الطريقة، فهو يرى أن تعددية هذا العالم المادي تنعكس في تعددية الشريعة.
وأكثر من ذلك، يلاحظ ناصر أنه بالإضافة لهذا التعدد المتوازي فإن الأشياء المادية والدينية تتشارك في داخلية متوازية أيضاً حيث يمكن أن نرى أن كل منها يشتق من أربعة أشياء. أي، كما أن كل الأشياء المادية نراها مشتقة من العناصر الأربعة كذلك فإن كل الأشياء الدينية مشتقة من العناصر الروحية الأربعة وهي: " القرآن والشريعة والتأويل والتوحيد". وأكثر من ذلك، فليس كل شيء مرتكز على العناصر الأربعة في كل من العالم المادي والروحي فحسب، بل أن الأربعة هي أيضاً مجتمعة مع بعضها. فمثلا: يجتمع الهواء والماء ليكوِّنا الرطوبة، والنار والماء ليِنتجا الدفء. وهكذا يعتمد وجود العالم على علاقة بين العناصر. ومن هذه الأزواج يأتي الخير. ويكتب ناصر أن الأشياء الخيرة ترتبط مع بعضها بنفس الطريقة في العالم الروحاني. وقد أتى كل نبي بشريعة معتمدة على أجزائها وإذا تفرقت هذه الأجزاء فإن الفوضى ستحل في العالم الروحاني. كما أنه يقارن ممارسة الشريعة بأخذ الدواء عندما نكون مرضى يقول: "قد لا نريد أن نفعل ذلك، وقد لا نحبه عند أخذه ولكننا نأخذه لأن من وصف ذلك هو طبيب يستطيع شفاء الجسد المادي. ومن يجلب الدواء للنفوس هو النبي محمد والدواء الذي يجلبه لشفاء نفوسنا هو الشريعة. وهكذا فمن أربعة أشياء وترابط العناصر الأربعة، يجهز ناصر خسرو مناقشاته ليبرهن أن على المؤمن أن ينفذ متطلبات الشريعة بشكل مناسب كي يصل إلى أعلى مستويات العلم. إنه من خلال تنفيذ الشريعة وأعمالها المادية يمكن للمؤمنين أن يتحضروا ليصل الإمام إلى قلوبهم.
لأن الشريعة تستدعى بعض المتطلبات المادية من أجل الجسد, ولأن البحث عن العلم نفسه يتطلب أن يسكن العقل في الجسد المادي بما في ذلك العيون والآذان واستعمال الكتب والأقلام والورق، فإن ناصر خسرو، مثل العديد من المفكرين الدينيين، عليه أن يخصص مكاناً شرعياً للجسد في روحانيته. وهكذا، فإن ما يتطور بشكل مدهش ضمن هذا الهرم التقليدي للأفلاطونية الحديثة حيث تشغل المادة أسفل الدرجات، هو ما أعطاه ناصر خسرو أهمية أساسية ربطها بدور الكائن الإنساني بالإضافة للمادة نفسها في عملية تطهير وكمال نفس المرء. وكما رأينا أعلاه، حيث أن العالم المادي هو نتاج رغبة النفس الكلية لتحقيق الكمال الوجودي للعقل الكلي، فلا يمكن لناصر خسرو الوصول إلى العالم المادي بالاشمئزاز نفسه أو الرفض الذي قدمه أفلوطين وغيره من رواد الأفلاطونية الحديثة الآخرون.
إذن فإن السعادة الحقيقية للإنسان تكمن في البحث عن الكمال، أي، بتكرار النموذج الذي بدأ به الكون بأكمله وعاد إلى أصله. ويجعل ناصر خسرو الروحانية من المتعة والرغبة المظهر الأساسي لفلسفته. إنه يربط المتعة والرغبة مع الإرادة البشرية، عملية إدراك النفس لذاتها, وبالعلاقة بين النفس الكلية والنفس الجزئية. وبينما يمكن تحقيق سمو العالم العقلاني أو الروحاني على العالم المادي بالماورائيات الخالصة فإننا نواجه صعوبة عندما نحاول ترجمة هذا السمو إلى تنفيذ حقيقي للأجسام المادية في المكان والزمان. ولهذا يجب على الدين أن يعالج الأمور النظرية والمسالك الأخلاقية. إن تحليل ناصر خسرو المفصل عن الخلاص الإنساني يكشف حدود ثنائية الأفلاطونية الحديثة للجسد والنفس.
وفضلاً عن ذلك، فإن ناصر خسرو كمفكر مسؤول ومدرك يدع نتائج النظرية تقوده إلى الاستنتاج المنطقي، لا يكون فيه الجسد فقط الشكل الأسفل من العالم الأفلاطوني الحديث, بل يرتفع إلى أداة للتحقيق الكمال الروحي. لأنه من خلال الجسد تستطيع النفس أن تكمل وذلك بتنفيذ فرائض الشريعة. وبهذه الطريقة، وبتعديل النظام الأفلاطوني الحديث فقد أخذ ناصر ما يمكن أن يكون مستواه ماورائياً وحوَّله إلى ديناميكية غنية بين قوة النفس وبين استخدامها للأداة الجسدية من أجل الكمال البشري. ولأن الإنسان مسؤول عن أفعاله، فإن نتائج أفعال تتحول إلى نفسه وهذا الانتقال يقود إلى كمال أو تمام نفس الإنسان والتي يمكن أن يحدث فقط بتنفيذ الشريعة. وتنطهر النفس بأعمال الجسد. وبينما يدع ناصر خسرو علم اللاهوت الفلسفي الإسماعيلي باقياً أفلاطونياً حديثاً في علم ما وراء الطبيعة حتى هذا المستوى مع إبداعياته وهرمياته وانسجاماً مع القطبية الإسماعيلية في الظاهر والباطن، فإنه خلق تركيباً نقدياً يجعل النظام الأخلاقي إسلامياً واضحاً. وبهذه الطريقة يكشف ناصر خسرو مركزية الجسد والعالم المادي ليس فقط في عمليات أخلاقية وفكرية حديثة لحياتنا، بل أيضاً في كمال النفس المطلق.